الأربعاء، 28 أكتوبر 2009

نشيج الأطلال ( 1 )

بسم الله الرحمن الرحيم

يالحال هذه الدنيا ...
القرار فيها إلى زوال
وجمالها إلى فناء..
حلوها إلى مر..
طفولتها إلى هَرَم..
وريعانها إلى شيخوخه..

منذ عقود ( كانت سنوات ولت سريعة ) ، حينما كنا في أولى مراحل العمر ..وعلى مشارف عتبات الحياة .. كنا نحسب حساباتنا للمستقبل ..
كنا نرى الأيام تمر ببطء شديد .. تمنينا حينها لو تدور عجلة العمر بسرعة .. كي نبلغ آمالنا .. تطلعاتنا .. وأحلامنا التي ننسجها بالليل والنهار ..
كنا نتمنى أن تولّي سنوات الدراسة سريعاً ونلتحق بالجامعة كي نتخرج منها ونصبح أطباء أو مهندسين أو طيارين .. حسبما كنا نسمع في طفولتنا أن تمام المجد هو أن تتحقق لنا إحدى تلك الأمنيات ..
رغم بطء السنين التي كنا نعيشها ذلك الحين..
كنا نعيش أجمل أيام العمر ..
لم تعكر نفوسنا ترّهات الحياة ..
كانت البراءة تملأ حياتنا .. نتعارك مع اصحابنا لبرهة ، وما أن تنقضي البرهة إلا وتجدنا متوادين .. نضحك ونتسامر مع بعضنا البعض .. وكأنه لم تمر بنا لحظات من القسوة التي لانت تحت براءة الطفولة وحب الحياة ..
ما أجمل أيام العمر التي انقضت .. لم نكن نحمل الهم ولم نكن نستشعر الغم .. أوقات الكدر تمر كسحابة صيف .. فلم يكن يؤرقنا شيء .. سوى .. أن تمر أيامنا تلك التي نعيشها بسرعة ونكبر ونكبر حتى نصل إلى أحلامنا التي ظلت أسيرة عقولنا ..
((لم نكن نعلم وقتها أن أيامنا تلك كانت هي الأجمل ))
ولم نكن ندري أن سويعاتنا تلك والتي ستنقضي هي الأسعد..
تمر السنين ونحن نرقب السنة القادمة فالتي تليها ونحن نطارد أحلامنا وعجلة العمر تطاردنا من خلفنا ..
ولم نكن لنعلم أن هناك مستقبل يخبيء في طياته المجهول .. ماكنا نراه لم يكن مجرداً من لحظات من السعادة والتي كنا نرقبها غير عابئين أو مدركين الجانب الآخر المتوازن من الحياة وهو الجانب المر ..
ذلك الجانب المر الذي سيترك جروحاً غائرة يطول أمدها دون أن تندمل .. فكم من حبيب وقريب وعزيز كان إلى جوارنا في تلك الأيام .. أصبح الآن مسجىً تحت التراب .. وكم من صحيح قد نالت منه عجلة الزمان فأصبح عليلاً ، تمتليء خزنته بمختلف الأشكال والألوان من الأدوية والعقاقير .. كم من جار وصديق كان بصحبتنا تلك الأيام .. فأضحينا بعد طول سنين لانعلم أهو حي يرزق .. أم قد توارى خلف الأفق البعيد إلى غياهب المجهول ..
وكأي إنسان آخر .. عشت طفولتي تلك .. وبذلك الرتم التي بحت به .. ولعلي أنتقل إلى مرحلة من مراحل العمر التي أصابت وجداني في مقتل .. وتجرعت الحزن والهم والغم بعدما أدركت كيف صار الحال .. بقرية كنت أعيش فيها أرغد العيش .. تغيرت تلك القرية .. وأصبحت أثراً بعد عين ، أتأملها في الوقت الحاضر .. فأحسبها وكأنها من أيام العصور الأولى أو الأزمنة السحيقة .. وكأن نزل بها البلاء والدمار .. حيث كانت في أوج عنفوانها ونضارتها ، أذكر تلك البهجة والزينة منذ ثلاثون عاماً ..
قريتي الحبيبة .. والتي سأسطر على ثراها الطاهر شيئاَ من الخواطر والذكريات .. حين ناجتني قبل يومين بنشيج .. لايصدر إلا من ... أطلال !..
قريتي من فوق الجبل ..
في عام 1399 هـ الموافق 1979 م ، قررنا الانتقال إلى قريتنا الصغيرة .. وذلك لقضاء عامين فيها .. كي يكتمل بناء منزلنا الجديد في الرياض.. ولأكمل دراستي الإبتدائية هناك من الصف الثالث .. كانت قريتي الرائعة حاضنة لأقاربنا وجماعتنا .. وما أن وصلنا إلى هناك .. حتى دبّ في جسدي وروحي الصفاء والإنتعاش بعد حياة المدنية الصاخبة الكئيبة .. لتكرر الدماء فيني من جديد .. من جو المدينة الصاخبة الكئيبة .. إلى هذه القرية الجميلة الهادئة الآمنة المطمئنة ..
كانت تلك الفترة فترة الصيف .. كنت أقضي أيامي تلك مع أقاربي الذين كانوا إلى جوار منزلنا الترابي .. وما أجملها تلك الأيام التي كانت نسمات الهواء تعبق بالطين ورائحة اللبن والقش .. في تلك الأيام .. كانت السماء مشبعة بالغيوم في كل حين .. وكانت الأمطار تتوالى في فصل الشتاء وأحياناً وقت الخريف .. لم أكن لأدفن أوقاتي الجميلة هناك خلف حاسوب آلي .. أو قنوات فضائية تحمل الغث والسمين .. بل كنت أقضي وقتي مع الأقارب والأحباب .. في كل مكان .. نجوب المزارع والبساتين التي كانت جناناً خضراء توزعت في أرجاء قريتنا تلك .. نتزاور عدة مرات في اليوم .. مرة في بيتهم .. ومرة في بيتنا .. ما أجملها من أوقات بريئة .. كانت تتعالى فيها ضحكاتنا .. وأحياناً عتابنا لبعضنا البعض .. ثم تعود أوقات الوئام والقرار إلى نفوسنا .. كحالها في كل حين ..
أطليت برأسي عبر نافذة الماضي الجميل .. حيث كان في ذلك الزمان .. بستان يانع متوهج بالخضرة والجمال ، أحسست بأن فصل الربيع قد بات مستقراً طيلة أيام السنة فيه ، أعتلت فيه أشجار النخيل الباسقة والتين والرمّان والنبق وأحاطت به أشجار الأثل السامقة ، وتوشحت أرضيته بالخضرة والبهاء .. تخللت ذلك البستان الفتّان سواقي المياه الزلال القادمة من قنوات صغيرة امتدت من مزرعة مجاورة في ذات القرية ، كانت المزارع تجاور بيوتات قريتنا الهادئة الهانئة والتي كانت تفوح من أسوارها رائحة الأصالة والتي تختلط مع نسمات الأثير متمازجة مع شذى تلك البساتين الوارفة ، ولتعم كافة أرجاء القرية باعثة الإنتشاء في أنفاس السكان..
كانت أياماً هانئة ماتعة ، حين كنت أخرج مع أقراني نجوب هذه المزرعة وتلك المزرعة ، لم تفصل هذه المزرعة عن منزلنا سوى خطوات ، كانت البساتين الوارفة قبالة بيوتنا المتجاورة في قلب القرية .. أخرج من المنزل أجد نديميّ ( أبناء خالاتي ) : فهد و خالد ، فنغدو سوياً إلى بقالة صغيرة في قلب القرية لشراء أغراض الكشتة .. عصير وبسكويت وشوكولاته وحلوى .. ثم ننطلق إلى هذه المزرعة ونختار مكاناً للجلوس في أحضان مجموعة من النخيلات لنتسامر ، والماء يجري في الساقي من أمامنا ، نغتسل منه تارة ، وتارة نرتشف منه فننتشي من عذوبته وصفاءه .. ثم ننطلق بين الأشجار المختلفة والتي كان أكثرها من أشجار النخيل الوارفة التي ما إن يبتعد أحدنا عن صاحبه خطوات إلا ويتوارى عن الأنظار لكثافة الأشجار ، نصادف أحد الأقارب أو الأصدقاء ممسكاً بندقيته موجهها صوب إحدى الأشجار ممارساً هواية الصيد التي كانت عشق الكثيرين في ذلك الحين.. نلقي عليه التحية ثم نتجول هنا وهناك فنجد بعض النسوة اللاتي قمن بخبز المراصيع في التنور الذي عمّ طيب دخانه المنبعث من السعف والحطب اليافع المكان .. ثم نتوارى خلف الأشجار ، وبعد أن تنتهي جولتنا .. نعود إلى ذات المكان ..
ومرات عديدة ..نتواعد في مكان ما في أحد البساتين ، ونبدأ في تقسيم المهام لإعداد طعام الغداء فنهرع إلى بقالة القرية لنشتري المعكرونة الطويلة ( أم غزال) والتي كانت مغلفة داخل كيس أزرق طويل .. والصلصة وبعض المرطبات .. ثم نلتقي في أحد البساتين ونبدأ في تجميع الحصى ونشعل النار ونضع القدر والمكونات داخله لنبدأ عملية الطهي .. ورغم بساطة طريقة إعداد طعام الغداء .. إلا أن أجواء القرية الجميلة وهواءها المنعش قد أكسب طعامنا أطيب النكهات وأدخل في نفوسنا بهجة الحياة .. كنا نعيش رمضان سوياً والعيد سوياً .. نخرج للصلاة سوياً .. مسجد القرية كان نقطة التقاءنا والتقاء أهل قريتنا 5 مرات في اليوم .. ودواليك طيلة تلك الأيام الخوالي ..
كانت أياماً غير أيامنا هذه .. أياماً أحاطتنا بغلالات من بهجة وسعادة وإنشراح .. نعود في النهاية الى منازلنا وقد اضنانا عناء ذلك اليوم ..
واليوم .. وبعد مرور تلك السنين .. تغير المكان ، وتبدّل الحال ..
يبست الأشجار فأصبحت حطاماً .. والأزهار تحولت إلى أشواك .. واقحلّت الأرض واجدبت ، جف الزرع والضرع وجفت الآبار .. وأصبح ماكان أخضراً بالأمس أصفراً باهتا ..
كانت هذه مزرعة وارفة الخضرة باسقة الأشجار لاتكاد ترى لها حدوداً ... واليوم .. أصبحت قطعة جدباء من الأرض .. نسأل الله الرحمن الرحيم لطفه بالبلاد والعباد ..
كان هذا ( الشعيب ) لانكاد نميز أرضه من الإخضرار .. ولم يكد يجف من آثار السيول إلا ويتلوه سيل آخر يعيد البهجة والحياة إليه .. واليوم .. أصبح منبتاً للأشواك فالحمدلله على كل حال ..
لم أكن أميز تلك القليب ( البئر) أو أراها فقد كان لفيف أشجار النخيل سداً منيعاً دونها .. وهذه الـ ( منحاة) وهي حفرة لتجمع السيول كانت تبث السعادة والرعب في آن واحد في أفئدتنا أوقات المطر حيث تمتليء بالمياه ويصبح منظرها ذو جمال يخفي خلفه مصيدة قاتلة!
وكانت هذه البيوت في القرية تقابل تلك المزرعة الوارفة منذ 3 عقود من الزمان .. فتأمل الحشائش هنا قد كانت أشجاراً ونباتات وارفة الخضرة .
يحادثني هذا المكان .. فيثير في نفسي الذكريات .. يوم كنت مع أقراني في القرية نغدو إلى هنا حاملين علب النيدو الفارغة ونثقب أسفلها بالمسمار من الأسفل ونملأها بمياه الساقية ، وحين نصل إلى الجحور نسحب المسمار قليلاً ليخرج الماء ثم نبدأ في لعبتنا الخطرة وهي تغرير ( إغراق ) منازل العقارب التي تولي مسرعة من جحورها بمختلف الألوان بعد صب المياه .. لم نكن نستشعر الخطر حينها لأننا كنا نرى حياتنا بريئة هنئية مسالمة لايوجد في قاموسها كلمة ( خطر ) ..
وهذا هو ذات المكان ولكن برؤية أوسع ، على مرتفع صغير ..
أحد جحور (القعس) شبيه بجحور تلك العقارب الصغيرة ، يقع في ذات المكان ..
لقطة أخرى للمكان الذي كنا نتسابق إليه مساءاً لنتجاذب الأحاديث ونداعب فيه تلك العقارب الصغيرة ..
-----------------
من بين تلك الأماكن التي كنت أختزل فيها ذكريات جميلة .. منطقة تقع خلف المزرعة الصغيرة أعلاه وكانت على بعد خطوات فقط ، كانت المزرعة أعلاه واسمها ( الطامن) يحيط بها جدار طيني .. يقع في نهاية ذلك الجدار منفذ صغير لمزرعة أخرى وكان إسمها ( الطالعة) .. كانت الطالعة تشتهر بعبّارات تصريف مياه السيول وهي فتحات في جدارها الذي يقع على الطريق الصغير الأوحد الذي يدخل إلى قريتنا
مزرعة أو بستان الطالعة .. كانت في أوج خضرتها وجمالها وكانت أشجار النخيل تغطي بساطها الوارف
تلك الأيام وحينما كانت الغيوم تنثر مياهها على قريتي التي لاتكاد تجف أراضيها إلا وتتوالى الأمطار في كل حين ترويها كانت مزرعة الطالعة تفيض بالمياه التي تخرج منها عبر ( العبّارات ) التي كانت من أشهر معالم قريتي .. فتندفع المياه منها بشكل أخّآذ نحو الطريق العام في القرية ولتتمازج تلك المياه مع مياه المزارع الأخرى ولتستقر في بعض الشعبان ( أماكن جريان السيول) منطلقة في سبيلها إلى ماشاء الله ..
مع موسم أمطار العام الماضي تهدمت هذه العبّارات والتي كانت من آخر ماتبقى من آثار بهجة قريتنا الحبيبة .. فأحدث ذلك أسى كبيراً في أهل القرية.. حتى قام أحد أهالي القرية جزاه الله خيراً بإعادة بناء تلك العبّارات بنفس الهيئة التي كانت عليها من قبل..
عبّارات الطالعة بعد إعادة بناءها مؤخراً بنفس شكلها السابق..
لقطة أخرى لعبّارات الطالعة ..
واليوم هكذا يبدو بستان الطالعة ، أصفر أشهب تملأ أرضه الأشواك المختلفة الأحجام والألوان والأنواع .. وحتى وإن كنت مرتدياً نعليك ومررت من هنا ، فستتقافز تلك الأشواك إلى حذاءك لتتوقف عدة مرات كي تخلص قدميك منها .. والحمدلله على كل حال
منظر لبعض الأشجار الصامدة - أشجار الأثل - ظلت واقفة وشاهدة على ذلك الماضي الجميل ، أمعن الإصغاء لبرهة .. أستمع إلى صوت الرياح تعصف بها فتنتحب ولها نشيج كنشيج الأطفال .. تعلم ان مصيرها سيعقب مصير قريناتها اللاتي كن يتسامرن معها .. يوم أن كانت الدنيا بأحسن حال ..
مقصورة الطالعة ( البرج الطيني ) التابع لبستان ( الطالعة) ويبدو في الصورة بستان آخر مقابل له ويسمى ( الخديّد ). البساتين كانت متجاورة كالمنازل ، واحات آمنة ظليلة لايتوقف فيها جريان المياه ، كانت بهجة للمتنزهين والجائلين والسكان الذين كانوا يتلاقون فيما بينهم ، لم تكن هناك أسوار ولن يساءلك أحد لماذا دخلت إلى هذا المكان .. فالنفوس كانت مليئة بالمحبة والخير للجميع ..
من بستان ( الطالعة )أطللت برأسي عبر هذه الفتحة التي تشرف على مزرعة ( الطامن) ،، كانت هذه جنة خلابة فيما مضى .. واليوم أصبحت هشيماً تذروها الرياح ..
ونظرة من داخل بستان ( الطالعة) تلقاء مزرعة ( الطامن) حيث هذا السور الذي يطوق ( الطامن) وتبدو مقصورة الطالعة ، تلك التي كنا فيما مضى نتسلى باعتلائها ، وأحياناً نجلس فوقها نتسامر ونشرف على الغادي والرائح من مرتادي القرية
مقصورة الطالعة .. كانت شاهدة على مامضى من الزمان الذي ولى بلا رجعة .. يوم أن كانت الدنيا بأفضل حال .. لازالت صامدة طول السنين رغم تهدم معظم بيوت القرية الطينية .. كي تخبر الناس أنه كانت هنا قرية !
ما أكثر ماتوالى من الغمام فوق هذا المكان ، يخيّل لي أن كل غيمة تمر فوق هذا السور وذاك البرج ، تلقي التحية والسلام وتشد من أزر البرج قائلة له : تماسك مكانك .. لتبقى شاهداً لمن يأتي لهذا المكان أن هاهنا قد كانت حياة !..
قمت بالقاء نظرة داخل سور الطامن ، وفي الصورة يُشاهد الباب الصغير الخفي الذي ينفذ من مزرعة ( الطامن) إلى بستان ( الطالعة) ..
وللحديث بقية في جزء قادم ...

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق