السبت، 31 أكتوبر 2009

نشيج الأطلال ( 4)

تعصف بي الذكريات
نحو سحيق الزمان
وتطير بي آهاتي
لأتعلق بسعف النخلة


نخلة كانت بالأمس فتيّة يغمرها أريج الصبا ، واليوم أراها قد يئست مما لاييأس منه الرجال ، وبهتت أغصانها .. وذاك الجذع الذي كان غضاّ ندياّ شاخ وهَرٍم ..
وأظل واقفاً بباب الدار لعلها تناجيني أو تبوح بشيء من الذكرى ، أطرقت رأسي ساكناً وكأن الطير على رأسي .. أتخيل تلك الحجرات الطينية ، و (الزير ) في فناء الدار ، وتلك (الصفّة) التي كانت مجلس سمر لأهل الدار ، أتخيل تلك ( الجصّة) التي يفوح منها شذى التمر وعبق الدبس .. أرمق ذاك ( النبر) الذي تغازل فيه الشمس أهل الدار .. وذلك (الوجار) االذي يبعث الدفء في أبدانهم حينما تلفحهم سياط القرّ .
كل مايلوح أمام ناظريّ .. خراب في خراب..


توالت أيادي الأيام تباعاً على هذا المكان هدماً وإمعاناً في تأليب العوامل الطبيعية لتقويض قوامه ..


ولم يبق شيء يطرق هذا السكون

أو ينطق هذا الصمت الرهيب المطبق


تراجعت إلى الوارء قليلاً

علّني .. أجد أثراً من حياة .. أو أسمع صوتاً خافتاً لمن ساقته أقدام الحنين مثلي من أهل هذه البيوتات كي يشعل فيها جذوة الأمل ، ويقوم بإجراء شيء من التنفس الصناعي علّه يسمع شيئاَ من نبض ..
غير أن .. الحياة في واد ، وهذا المكان .. في وادي آخر ..




ومكثت هنا فترة من الزمان .. لا ادري هل كانت ثوانٍ معدودات ، أم أيامٍ ضاعت في الترحال عبر الماضي ناسياً كياني فهيج ذلك ذكرياتي وأضرم النيران في دواخلي ...

هاج الحنين

وماجت بحور الشوق هادرة

أفكاري باتت كسفن أوهنها عناء الترحال ، لتعصف بها رياح التغيير التي طالت كل شيء هنا ، ولتقلبها رأساً على عقب

في زخم بحر الحياة .. بموجه العاتي ، تسوقه الرياح العاصفة بلا هوادة ..لتتقلب تحت المياه الداكنة في عمق بحر الترحال الذي أودى بنفسيتي هنا في الدرك الأسفل في بحر الشجون


ماأراه هنا .. رأيته من قبل وسأراه من بعد .. حينما أجول بين هذه الاطلال .. لقد تبلد الوجدان
وفقدت الاحساس بما حولي .. تخونني التنهدات وتخذلني الزفرات
فقد تشبعت بهول الموقف
ولوعة الحنين
الماضي قد فات ومات
ولكن بقي قلبي بشجونه وحنينه في زاوية مظلمة من زوايا إحدى البيوتات التي بليت عضامها وجفت مآقيها
منظر آخر
بات عاديا بالنسبة لي
الجصّة .. وما ادراك مالجصة ، يوم أن كانت الدنيا بخير ، وأشجار النخيل وارفة والمياه تتدفق رقراقة في سواقي المزارع ، والأمطار كانت تتعاقب تباعاً تخضّر ما اصفر وتينِّع ما أشرف على الذبول .. كانت عذوق النخل تتدلى كالجمان في بساتين القرية وحينما يحل موعد الصرم ، تتكدس تلك العذوق في تلك الجصص ..كانت الخير وفير وكانت القرية في ذلك الحين في ريعان الصبا والشباب قبل أن يدركها المشيب ، ويغادرها أهلها إلى مكان أكثر فتوة وشباباً .. وهكذا حال الدنيا


وأطل برأسي عبر هذا الباب
فأجد حلكة بداخل هذه الدار
تنقبض نفسي وأنا اشاهد كيف تحول الحال
بيد أني أرى بصيص من نور في أفق الدار
فلعله بشير خير
لمستقبل مشرق واعد لهذه الدار
وأن يهب أهل القرية لعمارتها من جديد
وتعود الحياة كما كانت من قبل
ولم استغرب هذا التصور
ففي آخر الزمان
سيقفز الماضي فوق الحاضر ليكون ماضينا هو مستقبلنا .. ( هل أنا أهذي هنا أم لا ؟؟ ) دعوني من هذه الكلمات .. فقد تكون أضغاث أحلام يقظة ..


غادرت تلك الأطلال ، وغدوت أغذ الخطى تلو ذاك المكان الذي لازال فيه نبض من حياة .. حيث بات مابقي من بصيص ضياء من الماضي مسلطاً عليه قبل خفوته .. وهو جامع ( البلاد) ، الذي كان ملتقى أهل القرية في يوم الجمعة والذي كان عيداً اسبوعياً بحق ذاك الوقت..
أما النساء وخاصة الكبيرات في السن فلم أنس جلوسهم خارج المسجد .. قد توسدن الزوايا وافترشن التراب ..
أما اليوم فغدا المكان شاهداً لهم ، وزوايا القرية تبكي فراقهن ، ليس عن هذا المكان فحسب .. بل عن هذه الدنيا ، رحمهن الله وأسكنهن فسيح جنانه ..
ثم أرنو صوب الجامع ، وأشرف على برادة مياه المسجد حيث كان يتحلق حولها الصبية في زمن سلف، كان البعض منهم ينتظر إقامة الصلاة ، فإذا فرغ الامام من خطبته ، وأقيمت الصلاة ، ولجوا المسجد كي يؤدوا الفريضة ..
بعد جولة قصيرة قرب جامع القرية ( جامع البلاد) واجتذاب شيء من الذكريات
توجهت إلى المزرعة التي تقع خلف الجامع من الجهة الشمالية وكانت تسمى بـ ( الخنساوي) ، كانت واحة وارفة ظليلة تجري فيها المياه الصافية الزلال وكانت حياتها رغيدة ، وكانت بستاناً عامراً وارفاً ، حينما بلغتها لم أعد أتذكر شيء مما كان سابقاً ، ولم أعد أتذكر تلك المسارات التي تتفرع يمنة ويسرة .. كنت أسير على غير هدى حتى اقتربت من بئر الخنساوي


هذا هو الحال اليوم - الخنساوي - بدا شاحباً ورهين الأسر بين نبتات الأشواك والحشائش الصفراء التي أحاطت به من كل جانب ..كيف تغيّر الحال بهذه السرعة .. سبحان الله!
وهنا .. اقتربت من البئر وتذكرت أسطورة كانت تنسجها لنا أمهاتنا لتخويفنا من الاقتراب من الـ ( قليب ) وهي اسطورة ( خروف السلّة) ، والذي كنا نتخيله وحشاً مرعباً له قرون واعين مخيفة .. يطل علينا من داخل البئر ..
وآه على آه .. بساط أصفر ، أين ذاك الأخضر ؟؟ حينما كانت المياه تغمر أرض البستان .. كانت هنا حياة .. أتأمل هذا المنظر الرهيب الذي حل بالمكان مع مرور الزمان .. ثم بدأت أصبِّر نفسي علّني أجد شيئاً من حياةٍ في هذا المكان ..
ووصلت إلى البئر وبدأت أنادي ( خروف السلّة) أين أنت ؟ رحم الله أياماَ كنا نتوجس فيها خيفة منك .. هل رحلت مع من رحلوا؟؟
البئر شاحبة ، والمياة .. أين المياه؟؟؟ لم ألق نظرة داخل البئر لعلمي لوأن هناك مياه بداخلها ماجف الزرع ونشف الضرع ..
نخلتين باسقتين
ومن المؤكد أن مياههما تجلب من خارج هذا المكان الذي رحلت البهجة والحياة عنه
فلله دره من سقاكما وتأمل الخير في هذا المكان الغابر
وبدأت أحاور نفسي .. لازالت هناك حياة؟ فأجيب .. أجل ! لازالت هناك حياة .. في ظل وجود من يحرص على إبقاء جذوتها مشتعلة حتى آخر رمق ..
فتسائلني نفسي .. ولكن لايوجد أحد هنا..
فأجيبها .. الا يكفي وجودي في هذا المكان ؟ ووجود هاتين النخلتين ؟؟ ووجود من يسقيهما ..
لاتيأسي يانفس .. فالخير قادم باذن الله
والحياة ستعود أجمل مما كان ..
وأسلك مساراً آخراً لا أتبين أثراً له ، إلا أن شجوني ودقات قلبي تسوقني قد تبينته .. هنا كانت ( منحاة) كنت قد وصلتها في ذلك الماضي الجميل مع أحد الأصدقاء .. كنا قد خرجنا من المدرسة وكانت الدنيا تعصف بها الأمطار .. كانت البهجة تملأ إفئدتنا .. وصلنا إلى (المنحاة) التي لم نستطع تبيّن معالمها بسبب غزارة مياه المطار التي فاضت على جانبيها .. كان الخطر محدقاً بمن يدنو من ذلك المكان .. إلا ان حبنا وتعلقنا بالحياة آنذاك .. قد أسدل عن أبصارنا كل نافذة تشرف على الألم والغم..
ورفعت بصري إلى السماء
أتامل هاتين النخلتين
فلعلهما تجيشان لي باستشرافهما للحال التي قد تلي هذا الواقع المرير..

ثم عدت أدراجي ثانية ، وقد تهيأت لمغادرة هذا المكان الذي نضح في قلبي المزيد من الهموم والمواجع.. ودعت هذا البستان ، وانا اردد قول الشاعر ..
ودعته وبودي لو يودعني صفو الحياة وأني لا أودعه *** وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى وأعيني مستهلات وأدمعه ..


ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق