الخميس، 17 يونيو 2010

سيدة الجبل




كان الوقت يقترب من المساء


وكانت الشمس تتأهب للرحيل بنهاية ذلك اليوم ..





وهاهو ذا جمال يغذ الخطا مسرعاً في قريته الجبلية التي تناطح قمم جبالها السحاب متجهاً صوب البيت القديم





ذلك البيت الذي تعيش فيه سيدة عجوز قد اعتزلت أهل القرية بعد وفاة زوجها وأبناءها الثلاثة في أحد المعارك .


منذ عقدين من الزمان آثرت البقاء لوحدها هناك فقد قررت أن تنأى عن البشر لأنها لن تحتمل ذلك اليوم الذي ستفقد فيه عزيزاً لها ، حسب تصورها وقرارها الغريب .


حاول أهل القرية بشتى الوسائل أن يثنوا تلك السيدة المسنّة وإسمها ( أم حمدان) عن الاختلاء بمفردها بعيداً عنهم ، ولكن دون جدوى ، فقد آثرت السكن في منطقة مرتفعة تشرف على القرية حيث يوجد بيت قديم قد هجره أصحابه منذ زمن بعيد ، وأصبح خرباً .. ولم يجد أهل القرية بد من الانصياع لرغبة ( أم حمدان) فقاموا بترميم ذلك البيت الصغير ، وكانوا يتعاهدون إيصال المؤونة إلى بيتها فيما بينهم ..


وفي هذا اليوم .. كان الدور على (جمال ) حيث قام بحمل مؤونة ذلك اليوم من طعام العشاء وبعض الشراب لأم حمدان ..





وصل جمال إلى بيت أم حمدان .. ووقف ببابها واستأذن للدخول فردت عليه العجوز ورحبت بقدومه ، ثم طلبت منه أن يترك المؤونة خارج الدار حيث ستأخذها هي بنفسها ..


قام جمال بالسؤال عن صحة العجوز وإن كانت بحاجة إلى شيء آخر .. فأجابته شاكرة أن أهل القرية لم يقصروا عنها بشيء ..


ثم ودعها جمال وسط دعوات تلك السيدة العجوز بأن يحفظه الله وييسر خطاه في دروب الخير..





غربت الشمس وأقبل المساء.. قامت العجوز بحمل المؤونة داخل الدار ثم أغلقت الباب .. ثم بدأت أصوات الذئاب تبدأ في العواء .. لم تكن أم حمدان لتخاف من تلك الأصوات فقد اعتادت على سماعها منذ سنوات عديدة ، بل باتت تستأنس بالاستماع إليها ..


ثم توجهت إلى فراشها وأسندت رأسها مستغرقة في نوم عميق ..





في اليوم التالي .. خرج أهل القرية لإقامة أحد المهرجانات الزراعية التي اعتادوا على إحيائها سنوياً .. وغصت ممرات القرية الضيقة بأهل القرية رجالاً ونساءاً ، شيبة وشباباً وأطفالاً ، وتفرقت خطواتهم مابين بائع وآخر ..





كان جمال يسير مع أحد رفاقه إلى جوار بائعي العسل الجبلي ، فقرر أن يشتري بعضاً منه ويهديه للسيدة العجوز ( أم حمدان) التي تقيم بمفردها في أعلى الجبل ..





اشترى عبوتين صغيرتين وحزمهما برباط قماشي كي لايتسرب العسل من أطرافها ..


بعد فترة الظهيرة ، بدأ أهالي القرية يتجهون إلى بيوتاتهم ، وبدأ الناس في تناقص تدريجي ، ومع قرب المساء ، كانت ممرات القرية خالية من الناس ، خرج جمال من منزله واستعد للذهاب إلى تلك السيدة المسنّة في رأس الجبل ..


وحينما اقترب حمدان من بيت تلك السيدة .
. بدأ في مناداتها فلم تجب النداء .. كرر النداء مراراً .. ولكن دون جدوى





فقام بفتح الباب وهو يناديها .. حتى وصل إلى باحة الدار ليجدها تغط في نوم عميق .. لم يشأ جمال ليوقظها ، فقرر ترك عبوتي العسل إلى جوارها .. ثم غادر الدار بهدوء ، وطفق إلى منزله في قلب القرية ..





مر يوم آخر ، وأشرقت الشمس من جديد .. خرج جمال إلى دكانه الذي يبيع فيه أغراض العطارة .. سمّى باسم الله وشرع في ترتيب بعض الأغراض وتصنيف الآخر .. بدأت الغيوم تتكدس في السماء ، ثم بدأ المطر يهتن حتى اشتد وقعه فجرت شعاب القرية ووصلت المياه إلى قلب القرية فأصبحت ممراتها كالأنهار الجارية ..


قام جمال باقفال دكانه .. ثم شرع التوجه إلى منزله .. وصل جمال إلى منزله بصعوبة شديدة فقد كانت الأمطار تحاصر معظم بيوت القرية .. وقبل أن يلج إلى الدار .. تذكر تلك السيدة المسنّة ..فقرر أن يحمل لها بعض الزاد ، حمل جمال بعض المؤونة ثم انطلق صوب الجبل في مناورات بين الشعاب الجارية ، حتى اقترب من بيت تلك السيدة العجوز .. وحينما وصل إلى دارها وبدأ في مناداتها .. لم ترد عليه كما حصل بالأمس ..



دخل جمال إلى بيتها ليجدها مستلقية بنفس الوضعية التي رأها عليها بالأمس ، فقال لها : مساء الخير سيدتي ؟ فلم تجبه السيدة العجوز .. كرر جمال التحية مرارً لكن دون جدوى ، ثم بدأ قلبه يخفق ، انتابه القلق أن يكون قد حل بالسيدة العجوز مكروه .. قام بتحريكها فلم تستجب ، ثم قام بوضع اذنه على صدرها ويده على انفاسها .. فجزع جزعاً شديداً .. لقد أيقن جمال أن السيدة العجوز قد توفت منذ الأمس .. لم يستطع جمال أن يحبس أدمعه .. فهب مسرعاً تلقاء القرية وبدأ في الصياح بأعلى صوته في أهالي القرية أن يهبوا لمساعدته وفي حمل تلك السيدة العجوز إلى بيتها ..





توافد أهل القرية والحزن قد خيم على وجوههم نحو جمال وطلبوا منه أن يسير أمامهم ، انطلق الجمع حتى وصلوا الى منزل السيدة العجوز .. ثم قاموا بحملها .. وعادوا بجثمانها إلى القرية .. كانت السيدة العجوز تقبض بيدها اليمنى بشدة ، حاول نسوة من القرية أن يفتحوا قبضة يدها المحكمة كي يسبغوا الغسل عليها .. ولكنهن لم يتمكنّ من ذلك ..





بعد تغسيل أم حمدان وتكفينها ، قام جمال بأم أهل القرية لصلاة العصر .. ثم اتبعوها بصلاة الجنازة عليها وقد أغرورقت أعين الجميع بالدموع ..





وبعد ذلك توجه الجميع إلى المقبرة لدفن أم حمدان .. أورد جمال جنازة السيدة العجوز داخل القبر وفي هذا الوقت ارتخت اصابع كفّها ليمنى لتنجلي عن ورقة صغيرة مطوية باحكام .. أخذ جمال الورقة ثم قام بوضع اللبن بمساعدة أهل القرية داخل القبر وشرع الجميع بالدفن حتى انتهوا من ذلك .. قدم بعض أهل القرية والذين لم يلحقوا صلاة الجنازة على تلك السيدة العجوز ثم شرعوا في أداء صلاة الميت على تلك السيدة العجوز ..





عاد أهالي القرية إلى منازلهم بنهاية ذلك اليوم وقد تملّك الحزن أفئدتهم .. وولج كل منهم إلى بيته .. دخل جمال إلى بيته ثم أخرج تلك الورقة الصغيرة التي وجدها مع تلك السيدة العجوز وبدأ بفتحها برفق شديد حتى وقع بصره على الرسالة التالية :





" كنت مستعدة لهذا اليوم ، ولم أكن أملك شيئاً من هذه الدنيا لأكافئكم على صنيعكم بي طيلة السنوات التي خلت سوى أن تنطلقوا الى بيتي في رأس الجبل وتحفروا داخل الفناء ، فقد وهبت لكم التركة التي خلفها لي زوجي الفقيد جزاء صنيعكم بي ، ولقد حرمت نفسي منها طيلة السنوات التي خلت ، لأني أعلم أنها إلى نفاد .. أما قلوبكم فهي ملأ بالخير والإيمان وليست من ذلك إلى نفاد "


وفي هذه اللحظة ، أجهش جمال بالبكاء ..وتوجه إلى ساحة القرية مع صباح اليوم التالي ليخبر الناس بما وجد من أمر تلك الفقيدة ..
ومنذ ذلك اليوم ، أطلق أهل القرية على قريتهم اسم (سيدة الجبل ).













ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق