السبت، 29 يناير 2011

الصــاحــب الشــاحــب




ذات مساء ..

وبنهاية يوم قد شرع في لملمة سويعاته إيذاناً بالرحيل ..

وفي وقت دنت فيه الشمس للغروب ..


وسط معمعة الزحام .. بين حشود المركبات .. وجهت المقود تلو أحد الشوارع الفرعية .. ثم أوقفت سيارتي إلى جوار أحد صوالين الحلاقة ..





ترجلت من السيارة ... وشرعت باب المحل .. كان هناك كرسي شاغر وآخر مشغول ..

ولم يكن بالمحل سوى حلّاق واحد ..


 

أشار علي الحلّاق بالانتظار ريثما يفرغ من الزبون الذي بين يديه ..

 

توجهت إلى الأريكة الموجودة خلف كراسي الحلاقة .. ثم استويت في مكاني ...


 

امتدت يدي إلى إحدى المجلات الملقاة على عاتق المنضدة أمامي .. وبينما كنت أقلبها .. ومرور بعض الوقت مابين هذه الصفحة وتلك .. إذا بالحلّاق يناديني لأحل محل الزبون السابق ..



جلست على كرسي الحلاقة .. ثم شرع الحلّاق بوضع المِلاءة على صدري .. وشدها إلى عنقي من الخلف ..

ثم بدأ في تهيئة بعض أدوات الحلاقة .. أمسك بماكينة الحلاقة الكهربائية .. وقبل أن يبدأ في قص الشعر الذي تماوج مابين البياض والسواد .. طلبت منه أن يُدني من امام ناظرَيَّ بعضاً من الشعر ويضعه على الملاءة .. ابتسم الحلّاق في عجب ..


 وله الحق في أن يعجب ..


فلا أخال أنه صادف مثل هذا الطلب الغريب من قِبَل أحد زبائنه ..


بدأ الحلّاق في حلق الشعر . ثم أسقط شيئاً من الشعر على الملاءة ، فوق ذراعي اليمني .. مددت يدي لأتأمل تلك الشعرات المتراكمة على بعضها .. شيباً قد احتضن باكياً سواداً على فقدانه ريعان شبابه ، وسواداً لا أخاله إلا شيباً لكنه غدا كقطع من الليل مظلم فهو من الغم على صاحبه الأبيض كظيم ..


أمسكت شعرة شاحبة وأخذت اقلبها بين يدي .. متأملاً كيف قد مرت هذه الشعرة بمراحل العمر منذ الصغر وحتى الكِبَر .. فلقد كانت بصحبتي طيلة العقود الثلاثة الماضية ، مرت بمباهج الحياة وشقائها وعاشت كما صاحبها حتى توارى شبابها وفقدت ريعانها دونما رجعة ..


ثم رجعت إلى نفسي .. تأملت هذا الكث المختلط مابين لونين لا ثالث لهما .. في كل مرة آتي إلى هذا المكان .. الحظ المعركة تميل لصالح هذا الأشهب .. في كل مرة أستوي على كرسي الحلّاق .. غير أن المعركة اليوم حامية الوطيس .. لقد أنهالت السنون نِبالاً أشهبت الرأس ، ولازالت تتوالى تلك النِبال مع كل يوم يمضي ، ليكون النصر شاحباً في النهاية لامحالة .. وهكذا نحن البشر ..


استلّيت شعرة شاحبة وغدوت أتأملها .. ورجعت إلى نفسي ..


لازلت في ريعان شبابي ..


كيف غزا الشيب مفرقي بهذه السرعة وبهذه الكثافة ؟ ثم بدأت أتذكر تاريخ قدومي إلى هذه الدنيا .. وحين أحصيت سنوات العمر منذ ذاك التاريخ .. إذا بي أتفاجأ .. لقد دخلت نادي الأربعين منذ أيام قليلة .. يا الله .. ما أسرع السنين ! .. فمنذ سنيّات قليلة كنت في العشرينيات .. .. حينما كان اللون الشاحب يشكو غربته في رأسي .. غير أن اللون الأسود هذا اليوم قد بادل صاحبه الظرف والزمان !




وفي خضم تفكيري وتأملاتي إذا بالحلّاق يطلب مني توجيه رأسي إلى اليمين .. ثم بدأت استرسل في التفكير .. منذ سنين حينما كنت أسمع عن شخص اربعيني .. يتبادر إلى ذهني أن ذلك الشخص قد بلغ من العمر عتيّا.. وأنه قد استنفد جل عمره .. واليوم .. أجد نفسي قد ولجت ذلك النادي .. نادي الأربعين .. فما أسرع السنين .. وما أسرع انقضاء عمرك أيها الإنسان !


..........

مرت دقائق والحلّاق منهمك في عمله .. وفي تلك الأثناء .. قام الحلّاق بقص حبال تفكيري مع الشعرات التي قصّها ليطلب مني أن أُدني رأسي إلى الأسفل كي يقوم بإكمال مهمته .. فأدنيت الرأس .. وأغمضت العينين .. واسترسلت في التفكير مرة أخرى ..


ترى ؟!


كم بقي لي من المباهج في هذه الحياة ياتُرى ؟

- مررت بأجمل أيام العمر .. أيام الطفولة .. مررت ببهجة الدخول إلى المدرسة .. وعشت بهجة النجاح .. والانتقال إلى الصفوف الدراسية الأخرى .. نلت بهجة التخرج من الثانوية وغمرتني بهجة الدخول في الجامعة .. تكللت بهجتي تلك ببهجة التخرج من الجامعة ..

نلت بهجة الحصول على وظيفتي .. واكتملت ببهجة اكمال نصف الدين .. تلتها بهجة الأبناء .. والحمدلله على واسع فضله وعظيم إحسانه ..


ثم ماذا بقي ؟!

لقد استفدت نصيبي من المباهج التي يمر بها معظم الناس في حياتهم ...


وأثناء تأملاتي .. إذا بالحلّاق يفيدني بانتهاء عمله .. تأملت نفسي في المرآة بعد الحلاقة ثم ناولته أجرته وانصرفت .. وقبل أن اودعه ودعت المرآة .. متأملاً فيها ساحة المعركة مابين الجيش العرمرم الشاحب والعصبة السوداء الباقية – ثم توجهت إلى سيارتي ..


وحتى إشعارٍ آخر ..


سيكون لي لقاء آخر -إن كتب الله لي عمراً – مع ذلك الصاحب ( الشاحب ) والذي قد يكون..

في المرة القادمة....




 الحاضر الوحيد في ساحة المعركة ؟!


 

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق