الأحد، 8 أبريل 2012

الطريق إلى فيلاخ


الساعة تقترب من الثالثة عصراً
محطة القطار شبه شاغرة ..

صاحبنا المسن قد أتى بمفرده إلى هنا ..
أتى حاملاً صحيفته بيده .. 
يمم طرفه صوب مقاعد الإنتظار  .. خطا خطواته بخفة وفتوة .. خطوات لاتنبيء عن شخص بعمره .. لربما الطبيعة الساحرة  لها دور في ذلك .. وصل إلى المقعد ، وشرع صحيفته على مصراعيها ، واستغرق في القراءة حتى يحين موعد الرحلة ..
حانت من صاحبنا التفاتة صوب المقعد المجاور فشاهد محفظة ملقاةعلى أحد المقاعد تعود لسيدة توجهت لتتأمل جدول رحلات القطار .. أحتفظ الشيخ بالمحفظة حتى عادت ليسلمها إياها .. فتهلل وجه تلك السيدة فرحاً وشكرت الشيخ على أمانته وبادرته اللطيفة .. 
صاحبنا يقيم في بلدة ريفية اسمها " سانت فايت " المعروفة بهواءها المنعش والصحي خاصة لمن يعانون من متاعب في التنفس ، وهذا اليوم يوم إجازته الأسبوعيه حيث سيتجه لقضاء هذا اليوم في مدينة " فيلاخ  "

 وقد اعتاد أن يقضي إجازته وسياحته في بلاده  كسائر مواطنيه .. وحري به أن لايبرح أرضه ، فجنة الله قد حوته بزخرفها وزينتها ..  
بعد دقائق معدودة .. اكتظت محطة القطار بالمسافرين ، وشرع موظف القطار بإطلاق النفير إيذانا بالمغادرة إلى فيلاخ .. رأى صاحبنا بعض الصبية الذين يتبين من سحناتهم أنهم من بلد آخر .. رآهم صاحبنا  يتجادلون في حيرة إن كان هذا هو القطار الذي يتعين عليهم الولوج إليه   .. أم ينتظروا قطار المسار الآخر .. وبكل اريحية  سألهم الشيخ عن وجهتهم التي ينوون الذهاب إليها .. فأخبروه بها ، ثم أشار عليهم أن يستقلوا ذات القطار الذي سيسافر عليه ، بيد أنه قد لفت عنايتهم أن يتوقفوا عند المحطة التي تسبق محطته التي سيصل إليها .. فشكروه من أعماقهم وتبعوه داخل القطار .. ثم توجهوا إلى العربة المجاورة التي سيجلس فيها .. أما صاحبنا فتوجه للعربة التي تلي عربتهم مباشرة ..
وأنطلق القطار بعزم وثبات .. 
وما أشمل المشهد هاهنا ..  طبيعة بهيجة تسر الناظرين
أنهار وبحيرات وبساط أخضر مترامي الأطراف ، غمامات تنضح بالشهد على سقوف أكواخ لم تعهد الغبرة لتبدو متلألأة على الدوام زاهية ..

انطلق القطار بعد أن وصل صاحبنا إلى مقعده ، ثم أحنى رأسه متأملاً رشق الهتّان على هذه الأرض البهيّة .. ثم يمم طرفه نحو المرج القشيب .. فإلى بحيرة لازوردية زاهية .. ثم إلى ذاك الجبل ..  وبعدها تسللت العتمة داخل القطار..  حيث دخل القطار أحد الأنفاق ..
ليخرج منها وسط جنات أرضية بين جبال وبحيرات ..
 رنا صاحبنا تلقاء طفلة صغيرة تتوسد حقيبة والدتها .. وتعبث بلعبة كفيّة  ..
وقعت اللعبة منها أرضاً .. فهب هذا الشيخ الوقور من مكانه وتوجه نحوها كي يلتقطها ويسلمها لها .. تلى المشهد ابتسامة عريضة أشرقت على ثلاثة وجوه ، وجه صاحبنا ووجه الطفلة ووجه والدتها .. ثم عاد الرجل إلى مكانه ..

قام صاحبنا باستئناف مطالعته صحيفته .. ثم لمح شاب وفتاة في مقتبل العمر حيث يظهر أنهما حديثي عهدٍ بالزواج ، أمّا ملامحهما فتنبيء أنهما من إحدى الدول العربية .. قدما إلى هذه البلاد لتمضية شهر العسل   .. تقدم الشاب برفقة زوجته وسأل بعض الركاب باللغة الانجليزية عن موعد الوصول إلى محطة قرية Badgastein حيث سينزل فيها هو وزوجته ..  فلم يستوعب أيا من الجلوس ماقاله الشاب ، ربما كونه لم يتقن النطق الصحيح لإسم القرية التي ينوي هو وزوجته الوقوف فيها حيث أومأ البعض برأسه في إشارة عن جهله بما قال ، والآخر حدق فيه لبرهة  وحادثه بلغة محلية يجهلها هذا الشاب ،  الذي بدوره لم يستوعب ماقيل له .. في وقتٍ كان شيخنا الوقور يتأمل المشهد ، ويبدو أنه فهم مقصدهما .. فناداه وأشار عليهما أن ينزلا في المحطة التالية والتي سيتوقف عندها القطار .. فقام الشاب بشكر هذا صاحبنا وعلا البشر محياه هو وزوجته .. وبعد دقائق .. توقف القطار .. فأشار إليهما الشيخ أن ينزلا هاهنا ..
نزل الإثنان بعد أن شكرا صاحبنا .. ثم غادرا القطار كي يعيشا جوهما في جنة من جنان الله في الأرض .. ثم تابع القطار سيره .. يخترق الغابات والفيافي والبحيرات..
القطار لايزال يواصل سيره .. يشق طريقه دونما كلل أو ملل .. والمناظر البديعة تتعاقب فيما بينها ..
يتوقف المطر تارة ، ثم يهطل تارة ..
يصعد القطار على جبل مرتفع للغاية ، ثم يهديء من سرعته قليلاً  .. حيث يأخذ طريقه بين انحناءات جبلية شاهقة .. والسحاب يتسلل عبر نوافذ القطار ..

ويرتفع القطار كثيراً عبر مساره محاذياً قمم الجبال الشامخات


ارتفع كثيراً وكأني أرى به قد طار..


والسحب تداخلت عبر نوافذ القطار مع هذا الارتفاع الشاهق !

أما القرى ؟!

قد تراءت كـقُرى النمل .. صغيرة ومتناثرة  ..
ويبدأ القطار في التهادي بين المنحنيات الجبلية لتتبدى مناظر خفيه غاية في الروع بين شلالات وجسور بديعة .. تُشاهد فيها بعض الرياضيين الذين تستغرب كيف وصلوا إلى هذا المكان الشاهق .. حيث لايُسمع إلا نفير القطار وكأني استشعرها تحية لهذا المكان الساحر !
 
وتنقشع الغيوم ..
وتتبدى الشمس في كامل بهاءها .. ويتوقف تساقط الهتان ..





ثم يبدأ القطار طريقه في النزول رويداً رويداً وعلى مهل ..وما هي إلا دقائق .. حتى أصبح قطارنا في مستوى تلك القرى التي كنا نراها كقرى النمل ..
القطار يطلق نفيره كلما اقترب من قرية بهية .. يتوقف هنا حتى وإن كان في ساحة الانتظار شخص واحد تحت رشق السلسبيل المتحدر من وجنات الغيمات  ..

مر القطار إلى جوار بحيرة .. فنهر .. فأكواخ جميلة تُشاهد في فناءها بوضوح مسابح الأطفال الصغيرة المفتوحة في الهواء الطلق ..
كان صاحبنا يتأمل المنظر كله عبر نافذته ..
ثم دخل أحد العاملين في القطار المقطورة يجر من خلفه عربية الخفائف والمشروبات .. طلب صاحبنا كوباً من الشاي .. وقعت عيناه في عيني تلك الطلفلة التي أرخت لعبتها جانباً ثم أخذت تتأمل عربية الخفائف .. ودونما أن يسألها هذا الشيخ .. قام بابتياع عبوة من العصير والبسكويت ثم قام ليسلمها لها .. غمرت السعادة فؤاد تلك الفتاة .. التفت الشيخ بابتسامته البريئة تجاه والدتها ، والتي كانت قد احنت رأسها نحو نافذة القطار مستغرقة في نوم عميق .. وقبل أن يعود صاحبنا إلى مكانه .. قام بإعطاء بائع العربة شيئاً من المال ..  فابتسم البائع وشكر الشيخ على كرمه وانصرف.. ثم عاد صاحبنا إلى مكانه..
وبعد دقائق معدودة .. نادى المُنادي في القطار .. أن استعدوا للوصول إلى محطة (سبيتال  Spittal ) .. حيث أن هذه المحطة تسبق المحطة الأخيرة  التي سيتوقف فيها صاحبنا .. هب الشيخ من مكانه وتوجه للعربة المجاورة ثم نادى في أولئك الصبية .. أن استعدوا للنزول فهذه محطتكم ..
تبسم الصبية لصاحبنا ونهضوا من أماكنهم وقاموا بشكره ومصافحته ..  ثم غادروا القطار الذي كان يخفف حمولته من المسافرين مع كل محطة يتوقف عندها ..
وبعد أن نزل من نزل ، وبقي من بقي .. استأنف القطار مسيره .. وبعد دقائق نادى المنادي في القطار من جديد    " السادة المسافرين يرجى الاستعداد للنزول في محطة ( فيلاخ ) ..
هب الجميع من أماكنهم استعداداً لتوقف القطار كي يبرحوه .. ثم قامت تلك الفتاة الصغيرة بإيقاظ والدتها تأهباً للنزول ..    
اقترب القطار من فيلاخ

وماهي إلا ثوانٍ حتى استقر داخل منصته  ..

نزل جميع الركاب ..
فلم يبق سوى صاحبنا المُسن .. الذي قد استغرق في نوم عميق .. حيث لم يكن هناك من يوقظه ..  
 
وبعد أن نزل جميع المسافرين ..  استأنف القطار سيرة إلى وجهته التالية ..
كان الشيخ قد احنى رأسه صوب الأرض بعد أن بلغ منه النعاس مبلغة .. حتى وقعت الصحيفة من يده ..
 بعد أن جاد الفؤاد بما حواه من محبة وخير لمن حوله ..
واليوم لم يجد ذاك الرجل من يجُد عليه بشيء من إحسان ..
ويرتفع القطار عبر مساره الصاعد مرة أخرى حتى تساوى مع هامات السحاب وقمم الجبال
 


هنا .. وبعد أن تسامى القطار مرة أخرى مع قمم الجبال ..
وعم السكون المطبق أرجاء القطار ..

أحببت أن أودع صاحبنا ..

نوماً هانئاً أيها الشيخ الوقور ..






هناك تعليقان (2) :

  1. طلال الشعلان10 أبريل 2012 في 12:24 م

    مجهود رائع يا ابو مشاري ، شاقني الأسلوب قمة الابداع والذوق الله يعطيك العافيه

    ردحذف
  2. تشرفت بمرورك الاروع وحضوركم الاجمل اخي العزيز طلال.
    لك اجمل تحية

    ردحذف