الخميس، 29 أكتوبر 2009

نشيج الأطلال (2)

نشيج الأطلال
------------------------------------
( الجزء الأول على هذا الرابط http://www.abomshary.com/2009/10/1.html )
وإلى مكان آخر من قريتي ، توجهت جنوباً غير بعيد .. نحو ساحة الملعب الشاسعة التي أحاطت بها مدرستي القديمة والتي تحولت إلى متحف في الوقت الحاضر

، ومن الجهة الأخرى المدرسة الحديثة التي تلتها ، كان ذلك الملعب نقطة التقاء شباب القرية حيث كانت تقام المباريات فيما بينهم هناك ، كانت للرياضة مكانة خاصة لدى أهل القرية وخاصة كرة القدم ، ولاعجب أن اكتسبت أجسادهم القوام الممشوق ولقد أكسبتهم ممارسة الرياضة روحاً عالية ونشاطاً إجتماعياً رائعاً ..


ويقع في الجهة المقابلة لذلك الملعب ، المزرعة التي كانت تغذي بساتين القرية المختلفة بالمياه لوجود البئر وماكينة جلب المياه .. كان إسم هذه المزرعة ( الخيسية) ..


حينما قدمنا للقرية كنت أدرس مع أبناء القرية في إحدى المدارس البسيطة التي احتضنتها إحدى البيوت الشعبية الصغيرة ، ثم انتقلت مع التلاميذ إلى هذه المدرسة أعلاه والتي كانت المقر الثاني لدراستي في القرية .. لم أعد أتذكر الكثير من أيام الدراسة في هذه المدرسة ، بيد أني لم أنس جرعات التطعيم التي كانت توزع علينا ونحن داخل فصولنا حيث كنا نأخذها عن طريق الفم ، وربما كان لمرارة جرعات التطعيم أثراً في أن تبقى ذكراها في هذه المدرسة محفورة في الذاكرة على مر الثلاثين عاماً التي خلت ! .... كانت هذه المدرسة بنظرنا ونحن صغاراً كبيرة حينئذٍ ، واليوم فتبدو للعيان صغيرة بالفعل على أن يحتل هذا المبنى مساحة للمدرسة .. بعد ذلك إنتقلنا إلى المدرسة الجديدة النموذجية المجاورة عام 1401 هـ لإكمال دراستي في الصف الرابع الإبتدائي ..

واليوم فقد تم تحويل ذلك المبنى إلى متحف في القرية..

مدرستي التي انتقلت إليها من بعد المدرسة الأولى والتي كانت أحد المنازل الشعبية الصغيرة .. وبعدما قضيت فصلاً دراسياً في هذه المدرسة ، كان إنتقالي مع بقية أقراني من أهل القرية إلى المدرسة الحديثة ، والتي لازال تلاميذ القرية يتلقون فيها تعليمهم إلى يومنا هذا ..

بوابة المدرسة التي تحولت فيما بعد إلى متحف
وهذه هي مدرستي الأخيرة والتي لازالت تستقبل التلاميذ داخل فصولها الدراسية ، يالها من ذكريات جميلة لم ينسني إياها تعاقب الليل والنهار على مر السنين التي خلت .. كان عدد التلاميذ قليلاً بالفعل ، وكل فصل كان يضم بداخله صفين دراسيين، فالصف الثالث والرابع في فصل واحد ، فكان عدد الطلاب لكل صف لايتعدى أصابع اليد الواحدة لكل صف دراسي يشارك الصف الآخر ذات الغرفة .. كنا متوزعين عن يمين وشمال المعلم ( الصف الثالث والرابع) ، يلقي المعلم درسه في الجهة الأخرى من القاعة على تلاميذ الفصل الثالث ، وبعدها يأتي إلينا ويلقي درسه علينا ، كلا من الصفين يستمع شرح المدرس للآخر. في بعض الأحيان .. يقضي أحد الصفين الدراسيين بقية الحصة خارج الفصل عند انتهاء المعلم من شرح درسه لهم .. فيالبساطة تلك الأيام وحلاوتها !.. كانت الحميمية تسود أجواء المدرسة وتسري بين الطلاب ومعلميهم .. فلا عجب أن معظم المعلمين إن لم أقل كلهم من أهل القرية الصغيرة حيث كانت تربط الجميع علاقات قرابة ونسب وطيدة .. وكانت تلك الأيام لاتخلو من تشكيل الرحلات البرية الأنيسة ، حيث كنا نخرج مع المعلمين إلى إحدى البراري ليقوم المعلمون بجهودهم المشكورة بإعداد طعام الغداء من الذبح والطبخ والنفخ ثم يعيدونا بنهاية ذلك اليوم إلى منازلنا بعد قضاء أجمل الأيام الدراسية التي مرت علينا ..
لقطة أخرى للمدرسة الحديثة والتي درست فيها آخر سنة دراسية لي في القرية ، لم يبق مع هذه المدرسة شيء من الذكريات فتلاميذها التي كانت تحتضنهم بين جنباتها بالأمس قد طوتهم الدنيا عنها .. فتبدلت الوجوه غير الوجوه .. وتعاقب العديد من الأجيال ، الجيل تلو الآخر إلى يومنا هذا ، لكن بقي إثنان إلى جوار هذه المدرسة منذ ذلك الحين لم يغادراها ولم يتبدلا عن مكانيهما .. بل ظلا واقفين معها مؤنسيها لحظات الفراق ، فالرفيق الأول هو ذاك الجبل القابع خلفها .. أما الرفيق الثاني .. فهو ذاك الأبيض اللامع فوقها في كبد السماء !
بعد تلك التاملات .. وإجتذاب ماأمكن من نفحات الماضي الجميل ، رنوت ببصري إلى المزرعة الصغيرة التي كانت حاضرة بالأمس ، حيث كانت تتفجر حيوية عبر قلبها النابض ( ماكينة المياه) والتي كانت تضخ الدماء(المياه ) في شرايينها ( سواقيها) ، واليوم بعد أن نضبت الدماء .. هل تخالون أن القلب سيبقى على قيد الحياة ؟ أو أن تسري دماءه في شرايينه وتتوزع على باقي الجسد الذي أصبح جثة هامدة بلا روح !

كانت تلك المزرعة الصغيرة تسمى بمزرعة ( الخيسية) ، حيث كانت بستاناً وارفاً تندفع المياه من بئرها لتروي القرية وبساتينها المختلفة .. لم انس بئرها العميقة والتي كانت محاطة بهالة من الهيبة والوقار ، ولم أنس ذلك السير المتحرك والذي كان يلتف على ماكينة الماء ويضرب بقوة بكرة جذب المياه من داخل البئر ، لتصب عبر أنبوب الشفط داخل البركة الصغيرة ( اللزا) كانت تتجمع فيها المياه القادمة من ( القليب) حيث تتوزع بعدئذٍ إلى بقية أرجاء المزرعة والبساتين الأخرى .. أتذكرهذه البركة الصغيرة التي كنا نستحم فيها ونحن صغاراً ، ولم تكن هذه البركة قد استهوتنا نحن الصغار فحسب .. بل قد استهوت الرياضيين من لاعبي الكرة من شباب القرية حيث كانوا يتبردون بمياهها ويطفئون لهيب عطشهم بعد فراغهم من لعب الكرة في الملعب .. ولهذه البركة الصغيرة قاصديها من بعض النسوة من أهل القرية حيث كان بعضهن يقمن بالري وجلب الماء منها ، وأخريات منهن يقمن بغسل الملابس .. كانت تلك المزرعة الصغيرة واحة وارفة بحق ، واليوم ... فالحال قد اسحتال .. حيث غدت ، جسداً بلا روح .. فسبحان مغير الأحوال !
وهنا كانت الساقية الكبيرة التي تندفع من تلك البركة الصغيرة ( اللزا) ، واليوم لم أعد أرى أثراً لها ، لقد طمرتها عجلة الزمن وصرفتها خلفها للماضي مع تلك النخلات المتساقطة والتي تبكي منتحبة على تلك الحياة الرغيدة والجمال الذي كان ..
وهنا في هذا المكان .. كانت هنا ساقية كبيرة تصب فيها تلك البركة الصغيرة المجاورة للقليب ( البئر) ثم تنزل الهوينا على بعض العتبات كشلال صغير ثم تمتد داخل مزرعة ( الخيسية) لتتفرع منها سواقي المياه المختلفة والتي تتوزع منها للمزارع الأخرى بعد أن تكمل جولتها التفافاً بين جنباتها،
ولقد كنت أتذكر فيما مضى تلك اللحظات الماتعة حينما كان ملتقى انهمار الساقية على العتبات الصغيرة أشبه بحوض صغير كان يستهوي العديد من الصبية في الإستحمام داخله .. أما اليوم .. فلم يعد هناك أي أثر لها ، حاولت مراراً أن أتبين ولو شيئاً من معالمها فلم أستطع .. فأطرقت برأسي ملياً هنا وأنا أقول .. لقد كانت هنا ساقية ، ولقد كانت هنا حياة !
منظر للـ ( قليب ) البئر ، وبركة التجميع الصغيرة ( اللزا) ، ثم بدأت أستشعر بغرابة هذا المنظر أمامي .. كيف كانت هذه البركة الصغيرة تتسع لي ولرفاقي حينما كنا نستحم فيها ذلك الحين !..
صورة أخرى لـ ( اللزا) بركة التجميع الصغيرة .. لم يتبق شاهداً على قيد الحياة في هذا المكان سواها وهذه البئر العتيقة ..
سعدت أن ظلت بعض الصخور مكانها كي تجاذبني الحديث وتبث الأنس في روعي قليلاً ، ولكن ماهو شعورها اليوم لو نطقت ؟ هل ستبادلني نفس الشعور والإحساس عن هذا المكان الذي كان !
صورة للقليب التي كانت تملؤها المياه منذ زمن قد ولى بلا غير رجعة ، غارت مياهه ونضب من بعدما كان القليب القلب النابض لهذه المزرعة والبساتين المجاورة فأصبح جثة هامدة بلا حياة .. وقد يكون ذلك بسبب ندرة الأمطار ، وتأثير المزارع المجاورة للقرية والتي قد تكون سبباً في خفض منسوب المياه في المنطقة حتى عجزت أعماق بئرنا هذا عن اللحاق بها ليحصل ماحصل ..
وأقلب بصري تارة مابين البئر والبركة الصغيرة ومابين تلك الساقية في محاولة مني لتتبع أثرها .. ولكن دون جدوى ، فلم أرى سوى هذه النخلات قد ارتمت على الأرض وكأنها تبكي هذا المكان على ماحل به ..
توجهت بعدها داخل المزرعة الصغيرة ( الخيسية) وأنا أحاول استرجاع الذكريات ، ثم تذكرت أحد الآبار بالقرب من هذا المكان ، حيث كنت ورفيقي فهد نخرج عصرية منذ ثلاثة عقود للاستذكار وتناول الشاي والقهوة والتسلي بتناول المكسرات من الحب، فغذيت الخطا مسرعاً تلقاء تلك البئر والتي كانت تقابل (المنحاة) حتى تبينت مكان تلك البئر ، ورغم ماواجهني من العوائق من الكثبان التي تيبست ظهورها والرمال المتراكمة هنا وهناك وجذوع الأشجار وشجيرات الأشواك التي زاحمت بعضها البعض إلا أنني لم أشعر بوخزها ، حيث كان الشوق يحدوني وأنا أغذ الخطا مندفعاً صوب ذاك المكان..
صورة ل ( المنحاة ) ومن خلفي تلك القليب التي كنا نذهب إليها سوياً للاستذكار والتسامر وشرب الشاي ..

وصلت إلى تلك القليب ، وتذكرت تلك اللحظات الشيقة التي كنا نقضيها هنا سوياً .. كان إذا تملكنا الضجر قمنا نتسلى بالقاء الأحجار داخل هذه البئر ونشنف أسماعنا بصوت المياه التي تتراقص طرباً على وقع الصخورالتي ترتمي إلى جوفها..
أطليت برأسي داخل القليب ، فلم الحظ شيئاً من مظاهر الحياة .. سوى تلك اليمامة القابعة في الأسفل ..

ومن ذلك المكان انطلقت إلى البستان الآخر المجاور وهو بستان ( الخديّد ) ، كان يفصل الخديّد عن الخيسية ( شعيب) (البويطن) الذي كان يتهادى قدوماً من ( الضلع) جبل القرية .. فكان يبدو كالنهر الجاري أثناء موسم الأمطار .. واليوم فيبدو أنه أصبح مرتعاً للأشواك ومصيدة للأتربة والغبار ..
تذكرت ساقية حجرية أشبه بالجسر الصغير كانت تعتلي ذلك ( الشعيب) ، لم يتبق منها هذا اليوم سوى هذه الصخرة التي طمرها الزمان ..
كيف أصبح هذا حالها رغم مرور عقدين أو ثلاثة من الزمان ؟ رغم أن هناك العديد من الآثار ظلت على حالها أو نصف حالها بعد مرور قرون من الزمان وليس مجرد سنوات أو عقود ؟؟ لقد تحول الحال بشكل رهيب في فترة قياسية من الزمن .. ولعلي استشعر السبب من قول المولى جل جلاله ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) .. فلا حياة من دون ماء ..
نظرة على شعيب البويطن ويبدو إلى يسار الصورة ماتبقى من نلك الساقية الحجرية والتي كانت تجتاز الشعيب فيما مضى ..
لقطة أخرى لشعيب ( البويطن ) من جهة قدومه من الجبل ( الضلع) .. والذي يبدو في آخر الصورة ..

عدت أدراجي مرة أخرى إلى مزرعة ( الخيسية) بعد إسترجاع شيء من الذكرى .. وبدأت أتأمل البساط القاحل لهذه المزرعة الصغيرة بعد إذ كانت جنة خضراء وارفة من جنان الدنيا ، والحمدلله على كل حال
أرض جدباء .. هذا ماشاهدته مما تبقى من تلك الجنة الوارفة الظليلة ..
وقبل وداعي لهذا المكان ، ومع دنو الشمس نحو المغيب ، حبست ظل هذه الشويكات التي شعرت معها بقسوة الحياة في هذا المكان ، فلا الومها على قساوتها وعلى ماحملته من الإبر الحادة ، فقد فاتها ذاك الزمان الأخضر ولولا قسوة الحياة فلربما كانت وروداً زكية نضرة تعطر المكان بأزكى أريج .. وتمتع أعين الناظرين بأزهى الألوان ..
وللحديث بقية ..

هناك تعليقان (2) :

  1. مـ ـ حـ ـمـ ـ د30 أكتوبر 2009 في 6:08 م

    لم استطع مقاومة أدمعي
    استرجعتم ماعجزت عنه الذاكره من ذكران !

    تقبل مودتي

    ردحذف
  2. ماشاء الله عليك اخي العزيز
    بورك فيك وفي يراعك الجميل يا غالي
    اسأل الله العزيز الكريم ان يخلف علينا تلك الايام بالجنة.
    وفي انتظار المزيد

    اخوك فهد اللي كان يذاكر معك :)

    ردحذف